ن المستبعد أن تلعب الزيارة التي أداها أخيرا رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق فائز السراج إلى روما، أي دور في تحريك المحادثات بين الفريقين المتصارعين في ليبيا، أو تنشيط مسار الحل السياسي. ويمكن القول إن الأوروبيين عموما، ربما عدا ألمانيا، خسروا أوراقهم في ليبيا، بسبب الصراعات الثنائية التي أنهكتهم، ولاسيما بين فرنسا وإيطاليا، ما أفسح المجال أمام الروس والأتراك ليستأثروا بغالبية أوراق الحل السياسي. وكانت وكالة “نوفا” الإيطالية، أفادت أن السراج زار روما في الأسابيع الأخيرة، في إطار زيارة خاصة، لكن الزيارة الحالية ارتدت طابعا رسميا.
وأتت الزيارة “الخاصة” أواخر السنة الماضية، في أعقاب زيارة قام بها وزير الخارجية الأمريكي مارك بومبيو إلى روما، حيث ناقش الأزمة الليبية مع نظيره الإيطالي لويجي دي مايو. وأكد الأخير أن إيطاليا وحلفاءها “يعتمدون على النفوذ الذي ستمارسه واشنطن على المتحاورين الليبيين، واللاعبين الدوليين المعنيين، من أجل التصدي لمحاولات التخريب المحتملة، وكذلك للسماح بالاستئناف العاجل لإنتاج النفط”. وتُعتبر إيطاليا أقرب الحلفاء إلى واشنطن في البحر المتوسط، وقد منحتها دور الوكيل في الملف الليبي خلال السنوات التي ابتعدت فيها عن المنطقة، في أعقاب مقتل سفيرها لدى ليبيا كريستوفر ستيفنس العام 2012. إلا أن نفوذ إيطاليا في ليبيا تقلص، مثلما هو شأن فرنسا أيضا، بدخول الروس والأتراك على خط الصراع الليبي ـ الليبي في السنوات الأخيرة.
ثلاثة مسارات وعدة أعطال
ما زال الإيطاليون، مثل سائر الأوروبيين، يؤكدون على أن حل الأزمة الليبية سياسيٌ، طبقا لمخرجات مؤتمر برلين، التي تبناها مجلس الأمن عبر قراره 2510 ومن خلال المسارات الثلاثة الأمني والاقتصادي والسياسي. لكن على الأرض تبدو الأمور معطلة، على الرغم من الخطوات الصغيرة، التي تؤكد ابتعاد نُذُر الحرب عن ليبيا (مؤقتا؟) ومنها إنجاز ثاني عملية تبادل للمحتجزين بين قوات حكومة الوفاق من جهة والقوات الموالية للجنرال حفتر من جهة ثانية. وتمت العملية، التي شملت تسعة وأربعين محتجزا في مدينة الشويرف (غرب) برعاية اللجنة العسكرية المشتركة 5+5 وهي العملية الثانية من نوعها. وينتمي المحتجزون إلى مدن ومناطق مختلفة بينها الزاوية وصبراتة وطرابلس وصرمان وتاجوراء.
ورحبت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا بتلك الخطوة، باعتبارها تندرج في إطار إجراءات بناء الثقة، التي نص عليها اتفاق وقف إطلاق النار. على أن هذه العملية، وهي الثانية من نوعها، تبقى صغيرة قياسا على ما ينتظره الليبيون من اللجنة العسكرية، وبالأخص الوصول إلى اتفاق على معاودة فتح الطريق الساحلية.
ذراع سويسرية
في هذه الأجواء حاول السويسريون، المُشتغلون على الملف الليبي من خلف الستار، اللجوء إلى دول الجوار الليبي لإنقاذ المسارات السياسية والاقتصادية والعسكرية المتعثرة. واتجه اهتمام “مركز الحوار الإنساني” وهو منظمة غير حكومية لكن مصادر مطلعة تعتبره الذراع الدبلوماسية لسويسرا، إلى حفز الجزائريين على لعب دور أكبر في تسوية الأزمة الليبية. ويقوم المركز بوساطات لاجتراح المصالحة بين الأطراف المتنازعة في مختلف أنحاء ليبيا منذ عشر سنوات. وزار رئيسه ديفيد هارلاند أخيرا الجزائر، على رأس وفد من الخبراء، في إطار “التنسيق مع السلطات الجزائرية وتوحيد الرؤى من أجل عودة الأمن إلى ليبيا” على ما قال في تصريحات صحافية. غير أن المراقب للدور الجزائري، في المحطات الكبرى التي مرت بها ليبيا في السنتين الأخيرتين، وخاصة مؤتمر برلين في بواكير العام الماضي، يُدرك حدود ذلك الدور، الذي يكاد يكون هامشيا. واتجه الجزائريون، كما جيرانهم التونسيون، إلى التركيز على ما يُعرف بالمشائخ والأعيان والحكماء، الذين لا يمكن الوثوق في مدى تمثيليتهم لقبائلهم ومناطقهم. أكثر من ذلك، ليس لدى الجزائريين ولا التونسيين تأثير مباشر على رؤساء القبائل والزعامات السياسية التقليدية، على عكس علاقات القبائل في المنطقة الشرقية مع مصر.
إلى هذا العطل الأول، ثمة عطلٌ أعمق يتمثل في الحال الصحية غير المستقرة للرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، والتي لا تمنحه القدرة على “امتلاك” عناصر هذا الملف المُعقد. ومن هنا غابت عمليا المبادرات الجزائرية، واستطرادا فإن ما تبقى من إشراك للجزائر في المؤتمرات الدولية الخاصة بالأزمة الليبية، لا يعدو أن يكون مجرد تقدير لمكانتها المعنوية، بوصفها دولة رئيسة في المنطقة وجارا أساسيا لليبيا. ويُلاحظ قدر كبير من التماهي بين الموقفين الجزائري والأمريكي من الصراع في ليبيا. وربما الاختلاف الأبرز بينهما هو الضيق العلني الذي يبديه الأمريكيون من عودة الجنرال حفتر إلى التلويح مجددا بورقة الحرب، بدعم إماراتي. وكان وزير الدفاع في حكومة الوفاق صلاح الدين النمروش، حذر من هجوم محتمل على مدن بني وليد وترهونة وغريان قد تنفذه قوات “الجيش الوطني الليبي” بقيادة حفتر.
ألف مرتزق من السودان
كما أبدى أعضاء من مجلس الشيوخ قلقهم من دعم الإمارات، “الشريك المفضل للبنتاغون” بحسب صحيفة “واشنطن بوست” للجنرال حفتر، مستدلين برحلات طيران إماراتية إلى مناطق خاضعة لسيطرته، والترتيبات التي يُعتقد أنها تمت لإدخال أكثر من ألف مرتزق من السودان إلى شرق ليبيا. زيادة على ذلك، اتهمت واشنطن روسيا بتزويد قوات حفتر بأسلحة ومقاتلين، وهو ما نفاه الكرملين. بالمقابل تركت واشنطن، على أيام ترامب، الباب مُواربا مع تركيا، حليفتها في حلف شمال الأطلسي، إذ لم تنتقد استمرارها في تسليح المجموعات المؤيدة لحكومة الوفاق، حتى بعد التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار.
على الطرف الآخر من المشهد الليبي، ما زال الجنوب يعاني من صعوبة الأوضاع المعيشية، في ضوء نقص المحروقات والسيولة وأزمة الكهرباء. وقد تواصل الجنوبيون مع الحكومتين شرقًا وغربًا، وسعوا إلى فتح المطارات الجنوبية. وشكا عمداء المجالس البلدية الجنوبية، وعددها 16 مجلسا، من أزمات خانقة، أبرزها غياب الأمن وانقطاع الكهرباء ونقص السيولة في المصارف ونقص الوقود وغاز الطهي، وشكوا كذلك من ارتفاع أسعار السلع، فضلاً عن الأوضاع المعيشية ونقص الخدمات، ما يشكل عبئًا ثقيلاً على سكان إقليم فزان (الجنوب).
لجنة قانونية استشارية
في أثناء ذلك، يتقدم مسار الحوارات السياسية بخطى وئيدة، وقودُهُ الوحيد هو التزام بعثة الأمم المتحدة بالوصول إلى حل في نهاية النفق. وفي هذا الإطار وعلى صعيد المسار المؤدي إلى الانتخابات المقررة لأواخر العام الجاري، شكلت بعثة الأمم المتحدة لجنة قانونية استشارية مؤلفة من 15 مشاركا في ملتقى الحوار، لتساعد في التوصل إلى توافق بشأن القضايا الخلافية. وكانت البعثة أعلنت الشهر الماضي، عن تشكيل لجنة قانونية من أعضاء ملتقى الحوار السياسي، من أجل وضع قانون للانتخابات.
غير أن موضوع الدستور، كما القانون الانتخابي، ما زالا عالقين، إذ سبق أن اقترح بعض المشاركين في الحوارات وضع دستور صغير أو وثيقة دستورية خاصة بالمرحلة الانتقالية، وهذا رأي غير واقعي، لأن المناقشات حول “الدستور الصغير” ستلتهم الحيز الزمني المُتبقي لإجراء الانتخابات.
ومن غير المفهوم صمت كثيرين عن مسودة الدستور، التي أعدتها لجنة منتخبة تمثل جميع أقاليم ليبيا، والتي ضمت ستين عضوا من خيرة الخبراء في القانون الدستوري والعلوم السياسية. ويتجاهل هؤلاء أن “لجنة الستين” فرغت من عملها، بعد عدة اجتماعات في عواصم مختلفة، وتوصلت إلى مسودة جاهزة للاستفتاء عليها. وقد أجيزت منذ يوم 29 تموز/يوليو 2019 بعدما حصلت على الغالبية، مُستأثرة بأصوات ثلثي أعضاء اللجنة. وبالإضافة إلى هذه العقبة القانونية، هناك عقبات سياسية، من ضمنها تسريع المشاورات لاختيار رئيس حكومة جديد، والفصل بين الحكومة والمجلس الرئاسي، زيادة على انتخاب رئيس جديد لهذا المجلس، خصوصا بعدما انقطع الحديث عن الاستقالة التي أعلنها السراج قبيل اجتماعات تونس، والتي لم تكن جدية على ما يبدو.
وفيما يتصارع الزعماء الليبيون على مواقع في السلطة المقبلة، يستسلم الشباب للإحباط ويُخطط لمغادرة البلد، إذ أظهر استطلاع حديث أن ليبيا تتصدر قائمة الشباب العرب الراغبين بالهجرة، بعد لبنان. وتوقع 86 في المئة من الليبيين المستجوبين اندلاع احتجاجات مناهضة للحكومة خلال العام الجاري، وانتقد 63 في المئة من أولئك الشباب تفشي الفساد الحكومي بشكل واسع في بلدهم. ويُلقي هذا الوضع الاجتماعي بظلاله على المسار الانتخابي، إذ سيكون من العسير على “الزعماء” كسب ثقة الشباب وإقناعهم بالانخراط في العمل السياسي والتخلي عن السلاح.